وردت قصة (أصحاب الأخدود) في القرآن الكريم في سورة البروج حيث كان يوجد غلاماً نبياً لقرية ولكنه لم يؤمن بعد، فكان يعيش في قرية ملكها كافر يدعى الألوهية، وكان لهذا الملك ساحر يستعين به، ولكن مع مرور الزمن وتقدم العمر كبر هذا الساحر في السن، فطلب من الملك أن يأتي له بغلام يعلمه السحر ليحل محله بعد وفاته، فقام الملك باختبار هذا الغلام وأرسله للساحر. تتوالى الأحداث على الغلام في بداية القصة بين ذهابه للساحر تارة وذهابه للراهب تارة أخرى، ثم تنتهي قصة أصحاب الأخدود بوقوف الغلام أمام الملك ودعوة الناس للتوحيد وعبادة الله عز وجل ثم موت الغلام ومن بعده المؤمنين من أهل القرية.
تاريخ قصة أصحاب الأخدود:
سميت قصة أصحاب الأخدود بذلك الاسم إشارة إلى الأخدود الذي تم إشعال النيران فيه لحرق المؤمنين الموحدين بالله. والأخدوج هو الشق أو الحفرة المستطيله شديدة العمق في الأرض. وقد ذكرت بعض الروايات من الأثر أن ملك اسمه يوسف بن شراحيل هو من قام بتلك المحرقة ضد المؤمنين الموحدين بالله في قصة أصحاب الأخدود وأنه قد ارتكب كذلك العديد من المجازر ضد أهل الكتاب من المسيحين في حضر موت، مأرب، المخاء، وظفار يريم باليمن.
مكان قصة أصحاب الأخدود:
ذُكر في الأثر أن قصة أصحاب الأخدود وقعت في مدينة "نجران" على ضفاف وادي نجران بشبه الجزيرة العربية، وكانت تسمى تلك المدينة في الماضي باسم "رقمات". وقد وقعت قصة أصحاب الأخدود في عهد مملكة حمير التي انتهت 525 م. لذلك فالقصة وقعت بصورة أساسية في المملكة العربية السعودية بوادي نجران حيث أن ذلك الوادي فيه مكان أشبه بحفرة عميقة بين سلسلة جبال، وهذا المكان هو الحفرة التي كان يعذب فيها أصحاب الأخدود لإيمانهم بالله عز وجل.
قصة أصحاب الأخدود الغلام والملك:
بداية قصة الغلام مع الراهب:
تبدأ قصة (أصحاب الأخدود) بأن الغلام وهو في طريقه إلى الساحر يجد راهب يجلس في صومعة يعبد الله على دين نبيه عيسى عليه السلام ويدعوا إلى التوحيد بالله. يجلس الغلام مع راهب وهو في طريقه إلي الساحر ليتعلم منه، وكان كثيراً يبقى مع الراهب ولا يذهب إلي الساحر أو يتأخر عليه، فكان الساحر في المرة القادمة يعاقبه ويضربه، فشكى الغلام للراهب فقال له الراهب إذا خفت من الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خفت من أهلك فقل حبسني الساحر. وقد فعل الغلام ذلك الأمر لتجنب ضرب الساحر له، وحتى يتثنى له دراسة الدين والتوحيد في السر دون أن يعلم أحد.
قتل الغلام دابة تسد الطريق:
أما ثاني أحداث قصة أصحاب الأخدود كانت في يوم كان الغلام في طريقه فشاهد حيوان عظيم يسد الطريق (قيل أنه أسد) ولا يستطيع الناس على المرور بسببه فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمر الناس ثم رمى الحيوان فقتله، علم الغلام بعد ذلك بأن الراهب على حق وأن دينه لابد أن يتبع. بدأ أمر الغلام يشيع بين الناس بأنه هو من قتل الدابة وأنه على الرغم من صغر سنه فإنه فعل ذلك، ولابد أن يكون وراءه أمر ما، وقد كان هذا أول بروز لدور الغلام في القرية. ذهب الغلام إلى الراهب وأخبره بما حدث، فقال له الراهب يا غلام أنت اليوم أفضل مني وإنك ستبتلى فإذا ابتليت فلا تدل علي خشية أن يقتلونني.
شفاء غلام أصحاب الأخدود للناس بأمر الله:
صار أمر غلام قصة (أصحاب الأخدود) بعد ذلك مشاع خاصة أنه كان صاحب كرامات حيث كان يدعوا الله فيجيبه فكان غلام بتوفيق من الله يعالج الناس من جميع الأمراض كالأكمه والأبرص، فسمع به أحد جلساء الملك وكان قد فقد بصره فقام بجمع الكثير من الهدايا وتوجه بها إلى الغلام بطل قصة أصحاب الأخدود وقال له أعطيك كل هذه الهدايا إذا قمت بشفائي، فقال له غلام قصة أصحاب الأخدود أنا لا أشفي أحد ولكن الذي يشفي هو الله فإن أمنت بالله ورجعت لدين عيسى عليه السلام وتركت الكفر والشرك بالله سوف أدعو الله أن يشفيك فيشفيك، فآمن جليس الملك فشفاه الله تعالي.
الملك يغضب لإيمان الجليس:
بعد ذلك ذهب جليس الملك غلام قصة أصحاب الأخدود في مجلس من مجالسهم وقد رد الله إليه بصره، فاستعجب الملك واستغرب لأمره وسأله عن السبب، فقال له الرجل أن ربه قد شفاه ورد له بصره. زادت دهشة الملك الغاشم الظالم وقال للرجل أنه لم يعلم رب لهذه القرية غيره، ثم سأل الجليس عن ذلك الإله الذي شفاه فقال له هو الله رب العالمين. بعد ذلك أمر الملك بتعذيب الجليس الأعمى الذي أمن وشفي حتى يستدل على الغلام ليرسل بعد ذلك الملك جنوده لغلام قصة أصحاب الأخدود ليأتوا به. سأل الملك الغلام كيف فعلت وشفيت الرجل هذا فقال أنا لا أفعل إنما الشافي هو الله، فغضب الملك وأمر بتعذيبه حتى دل على أمر الراهب.
تعذيب الراهب عذابًا شديدًا:
عندما علم الملك أن الراهب هو سبب إيمان الغلام، عذب الغلام حتى يدل على صومعته ثم أرسل جنوده ليأتوا بالراهب.أتى الجنود بالراهب إلى الملك الذي أمره أن يترك التوحيد وعبادة الله وأن يعود إلى عبادة الملك، فرفض الراهب رفضًا شديدًا، وقال أن الله هو ربه وأنه سيظل على دينه التوحيد وعلى ملة عيسى عليه السلام. زاد غضب الملك ثم أمر الجنود أن ياتوا بمنشار وأن يقتلوا الراهب، فقسم الجنود الراهب إلى قسمين، ثم أتي بعد ذلك بجليس الملك، الذي شك بنفس المنشار إلى نصفين هو الأخر.
الملك يتوعد الغلام:
بعد ذلك أمر الملك بإرسال الغلام بطل قصة أصحاب الأخدود إلى قمة جبل وخيره إما أن يرجع عن دينه أو يلقوه من فوق الجبل، فدعي الغلام ربه وقال "اللهم اكفنيهم بما شئت"، فأهتز الجبل وسقط الجنود. عاد بعد ذلك الغلام إلى الملك، الذي شاط غضبًا، وأمر جنوده بالذهاب به إلى البحر وإلقاءه في وسطه إن رفض العودة لعبادة الملك. دعا الغلام نفس الدعوة "اللهم اكفنيهم بما شئت" فاهتزت السفينة وزلزلت فغرق الجنود كلهم وماتوا إلا الغلام أنجاه الله ثم عاد مرة أخرى للملك. وفي مرة قال غلام قصة (أصحاب الأخدود) للملك أنك لا تستطيع قتلي حتى تفعل ما أريد فقال ماذا فقال له الغلام أن تجمع الناس في مكان وتقوم بصلبي على جذع وتأخذ سهم وتضعه في القوس وتقول "بسم الله رب الغلام" ثم ترمني به فبذلك تكون قد قتلتني.
قتل الغلام:
لم يستطع الملك أن يقتل الغلام مؤمن قصة أصحاب الأخدود إلا عن طريق ما قاله له الغلام. فبعد أن سمع الملك من الغلام في أخر مرة، قرر أن يجمع الناس ثم يصلب ذلك الغلام على جذع من النخل، ثم يأخذ من كنانة الغلام سهمًا ليضعه في القوس ويصوبه نحو الغلام ويقول باسم رب الغلام، ليرمه به. وبعد أن فعل الملك ذلك، أصاب القوس صدغ الغلام (أي المنطقة بين الأذن والعين) ليموت بعدها. عندما رأى الناس ذلك، لم يكن منهم إلا أن صدقوا وأمنوا وقالوا "أمنا برب الغلام" عدة مرات مما جعل الملك يستشيط غضبًا ويأمر بحفر الأخدود.
الملك يحرق أصحاب الأخدود:
أمر الملك بجمع الناس وقام بصلب الغلام بطل قصة أصحاب الأخدود وقال باسم الله رب الغلام ثم رماه بالسهم فقتله، فصرخ الناس (أصحاب الأخدود) وقالوا آمنا برب الغلام، فقد آمن الناس، فأمر بحفر شق في الأرض وإشعال النار وأمر جنوده بتخيير الناس أن يرجعوا عن دينهم أو إلقائهم أخدود من النار ففعل الجنود هذا لذا سمي أولئك المؤمنين بأصحاب الأخدود، حتى جاء دور امرأة معها صبي تنظر إليها وتخشى عليه وعلى نفسها فأنطق الله الرضيع وقال لها لا تخافي يا أمي فإنك علي حق فكانت المرأة وباقي أهل القرية المؤمنين من (أصحاب الأخدود) الذين رموا في حفرة من النار فقط لأنهم قالوا ربنا الله وأمنوا برب الغلام.
قصة أصحاب الأخدود في القرآن:
ذكرت قصة أصحاب الأخدود تحديدا في سورة البروج. وفي تلك السورة، بدأ الرحمن قسمه ببروج السماء وهي مدارات محددة للكواكب والنجوم حين تتحرك فيها تشكل أشكال محددة يمكن استخدامها في التقويم، مواعيد الشعائر، والزراعة والحصاد وفي ذلك يقول اامولى عز وجل "والسماء ذات البروج".
بعد ذلك، يقسم المولى عز وجل بيوم القيامة الذي سيبعث فيه الخلائق جميعا ومنهم من قتلوا أصحاب الأخدود ليقفهم بين يديه ويحاسبهم على ما فعلوا بالمؤمنين وفيه يقول المولى عز وجل "واليوم الموعود" والواو في أول وثاني أية واو قسم. وليوم القيامة أسماء عديدة ذكرت في القرآن الكريم مثل يوم الحشر، يوم التناد، يوم التغابن، يوم الدين، يوم الفصل، يوم الخروج، يوم البعث، النبأ العظيم، الغاشية، الساعة، الحاقة، القارعة، والواقعة.
ثم يتبع ذلك قسم ثالث في قوله "وشاهد ومشهود" ومعنى الشاهد أي يوم الجمعة، أما المشهود فهو يوم عرفة. بعد ذلك القسم المتتالي، يقول المولى عز وجل "قُتِل أصحاب الأخدود" وفي هذا تفسيرين، أولهما أن المؤمنين من أصحاب الأخدود قتلوا بالفعل، والثاني أن أصحاب الأخدود أي من حفروه قتلوا أي قاتلهم الله أو لعنهم. ثم بعد ذلك، يسرد المولى القصة بأنهم حفروا للمؤمنين حفرة ذات وقود، وألقوهم فيها فقط لأنهم مؤمنين، وعلى الرغم من ذلك فتح الله لهم باب التوبة وخيرهم بين التوبة مما فعلوه بالمؤمنين أو العذاب في قوله تعالى:
"إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا، فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق".
لماذا لعن الله أصحاب الأخدود؟
لقد لعن الله اصحاب الأخدود لفتنهم المؤمنين في دينهم عن طريق تعذيبهم ليرجعوا عن الإيمان بالله. بل وقد وصل الأمر بأصحاب الأخدود إلى حرق المؤمنين في حفرة عميقة من النار للدرجة التي جعلتهم لا يفرقون بين رجل وامرأة أو بين طفل وكبير، لذلك استحقوا اللعن والطرد من رحمة الله.
العظة والعبر المستنتجة من قصة أصحاب الأخدود:
1- يثبت الله المؤمنين بالقول الثابت في الدنيا مهما بلغت الشدائد، فأصحاب الأخدود والغلام ثبتهم الله على الإيمان حتى لاقوه مؤمنين موحدين.
2- لم يرضخ الغلام بطل قصة أصحاب الأخدود ولم يتراجع عن إيمانه على الرغم من ترغيب الملك وترهيبه له وهذا يوضح أهمية تربية الأبناء على العقيدة السليمة.
3- المؤمن خير من الكافر ولابد أن يستخدم إيمانه لخدمة الناس والتيسير عليهم كالدابة التي أبعدها غلام أصحاب الأخدود.
4- سعى الغلام لنجاة أهل القرية حتى قبل موته عن طريق إثبات أن رب الغلام وحده هو من يستطيع أخذ روحه.
5- الله أولى بعباده من كل طاغية كالملك وهو يحدث المعجزات ليظلوا على إيمانهم كمعجزة الرضيع الذي تكلم.
6- خلد الله ذكر أصحاب الأخدود لتضحيتهم العظيمة بأنفسهم وأرواحهم ولثباتهك على الإيمان، فعلى قدر التضحية يكن الثواب.
7- الابتلاء سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير في الدنيا، ذلك بأن الدنيا هي دار ابتلاء واختبار وليست دار تكريم وتشريف، ويكون فيها البلاء على قدر الإيمان كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك أبتلي أصحاب الأخدود بلاءا شديدا لقوة إيمانهم.
8- تعلمنا قصة أصحاب الأخدود الإيثار حيث أن الراهب أثر الغلام على نفسه وعلمه الدين.
9- حول كل ملك فاسد، بطانة فاسدة تحثه على ظلم الناس وإيذائهم وتوهمه بأنه على صواب دائمًا وهذا هو ما حدث في قصة أصحاب الأخدود.
10- السعي نحو هدف أسمى كدعوة الناس للتوحيد وترك الشرك أو الكفر هو أفضل ما يمكن أن يقدمه الإنسان لغيره.
11- أخيرا، تعلمنا قصة أصحاب الأخدود التمسك بالدين ولو على حساب الروح والنفس فجليس الملك والراهب قتلوا متمسكين بدينهم لأخر لحظة.